" سيادة الدولار" أكبر خطأ في حق الاقتصاد العالمي والأمريكي..
- الثلاثاء ١٥ / نوفمبر / ٢٠١٦

بقلم الدكتور : رضا عبد السلام
أكبر خطأ في حق الاقتصاد العالمي والأمريكي.. "سيادة الدولار"
نعم، هو أكبر خطأ تم ارتكابه في تاريخ الاقتصاد العالمي والأمريكي تحديداً، بل يمكن القول إن "معيار الدولار" شكل المسمار الذي جر الولايات المتحدة ومعها العالم إلى هذه الهاوية. فقد خرجت الولايات المتحدة من الحرب العالمية الثانية لتعلن للعالم أنها تُسطّر معه رحلة جديدة من الإمبريالية الرأسمالية، من خلال ما سمي باتفاقات بريتون وودز (1944م)، حيث تم تنصيب الدولار فقط (مع أن الاسترليني كان موجوداً وقوياً) ليكون عملة العالم والاحتياطات والمبادلات الدولية، فمن يرغب أن يكون شريكاً في هذا النظام العالمي الجديد، عليه أن يقبل بالدولار.. ومن هنا كانت البداية، وقد تولت مؤسسات بريتون وودز (صندوق النقد والبنك الدولي والجات) مسؤولية إخضاع العالم لهذا النظام، وقد نجحت نجاحاً باهراً.
ولكن الولايات المتحدة، وخلال الفترة من 1945 وحتى 1970م رأت أن ربط الدولار بالذهب يقيدها كثيراً في رحلتها مع العالم، كما أنه بمرور الوقت سينفد احتياطيها من الذهب في حال توجه حاملي الدولار لتحويله إلى ذهب، وبالتالي ستتوقف الرحلة سريعاً، ولهذا أعلنت إدارة الرئيس نيكسون وبقرار منفرد عام 1971م إلغاء نظام بريتون وودز، أي وقف نظام تحويل الدولار إلى الذهب، ومن هنا باتت الولايات المتحدة مطلقة اليدين في طباعة وإصدار الدولار... بعبارة أخرى... منذ ذلك التاريخ، لم يعد الأمريكيون بحاجة إلى العمل أو الإنتاج أو الادخار شأن باقي الشعوب... يكفيهم فقط تشغيل آلة طباعة الدولار، وتصدير هذا الدولار للعالم، والحصول في مقابله على سلع..وقد نما عرض الدولار بنسبة 3000 في المائة خلال الفترة من 1971 وحتى نهاية 2008م!! مقارنة بمعدل نمو بلغ 55 في المائة خلال الفترة من 1945 وحتى مطلع 1971م!! هل يعقل هذا؟ وهل يقبله عقل أو منطق اقتصادي؟!
وحتى تضمن الولايات المتحدة استمرار مسيرتها مع العالم، جعلت من مسألة معيار الدولار خطاً أحمر، لا يجوز الاقتراب منه، فقوة وبقاء وهيمنة الولايات المتحدة ترتبط وجوداً وعدماً بقوة وبقاء الدولار عملة الاحتياط والمبادلات الوحيدة، ولهذا وبحسب بيان لعضو مجلس النواب الأمريكي هون رون بول عام 2006م "فإن غزو العراق ووأد صدام حسين، ارتبط ارتباطاً مباشراً بتصريحه في عام 2000م برغبة العراق في بيع النفط باليورو بدلاً من الدولار... ولم يدرك أنه أعلن بذلك نهايته... فالمسألة لم تكن أسلحة دمار شامل أو تنظيم قاعدة"... المسألة هي أن صدام اقترب من الخط الأحمر (سيادة الدولار)، فكانت نهايته. المنطق نفسه يمتد إلى إيران التي أعلنت عام 2003 عن إنشاء "بورصة للنفط"، والحال نفسه بالنسبة لفنزويلا ورئيسها الذي حرك المياه الراكدة بشأن طلبه تسعير النفط بغير الدولار عام 2001م، ولهذا تعرض للعديد من محاولات الاغتيال وكلنا يعرف هذا.
ونتيجة للخطر الكبير للاعتماد على معيار الدولار، تخلخل هيكل البنيان الاقتصادي الأمريكي، وبات اقتصاداً خدمياً، فوقاً لبيانات دائرة الإحصاء الأمريكية، تراجعت حصة قطاع التصنيع من الناتج المحلي الأمريكي من 33 في المائة عام 1975 إلى 13.5 في المائة عام 2008م، ولهذا تراجعت نسبة العمالة في الصناعة من نحو 25 في المائة عام 1975م إلى 9.5 في المائة عام 2008، وفي المقابل أصبحت حصة قطاع الخدمات من الناتج المحلي الأمريكي نحو 80 في المائة عام 2008م مقارنة بنحو 62 في المائة عام 1975م، بل إن حصة قطاع الخدمات المالية والتأمين من الناتج المحلي الأمريكي صعدت من 13.5 في المائة في 1975م إلى 21 في المائة عام 2008م، أي أن حصة القطاع المالي - وحده - باتت تقريباً ضعف حصة قطاع التصنيع!! إنه خلل كبير وطبيعي أن يتم تعويضه من خلال الاستيراد السلعي، ومن ثم العجز غير المسبوق في الميزان التجاري الأمريكي. ولهذا لم يكن من الغريب أن يتراجع الادخار الفردي من أكثر من 15 في المائة مطلع الثمانينيات إلى السالب أخيرا في مقابل تصاعد المديونية الأسرية من أقل من 60 في المائة من الناتج المحلي عام 1982م إلى نحو 135 في المائة عام 2007م!! هذه هي مؤشراتهم، التي تعكس انهياراً تدريجياً في مختلف الجوانب على مدى العقود القليلة الماضية.
ولهذا، وكما قال عضو مجلس النواب المشار إليه أعلاه، كان لابد أن يأتي اليوم الذي ينبغي فيه على الولايات المتحدة أن تدفع الثمن، وها هو اليوم قد أتى، وتجلى لنا بوضوح أننا كنا أمام بطولات وأمجاد مصطنعة، شأن بطولات الفتوة في روايات نجيب محفوظ. فلكل رحلة غير عادلة نهاية، كان لابد لبوش، الذي طغى وتجبر، بل وحط من قدر البشر "وخاصة المسلمين منهم"، أن يرى بأم عينيه حصاد تلك الرحلة المريرة، بعد أن كلف الاقتصاد الأمريكي أكثر من ستة تريليونات دولار (تكاليف مباشرة وغير مباشرة للحرب على ما سمي بالإرهاب). لقد قدم العقدان الأخيران الولايات المتحدة في صورة كانت تنبئ بخطر شديد ينتظر هذه الأمة التي قدمت في الماضي المثل الطيب، بعد أن استشرت سياسات القمع والتآمر وخلط الأوراق وتوظيف الأنظمة، واللعب بها على حساب الشعوب الضعيفة، وتفريغ باقي الدول بجذب العقول والكفاءات بمختلف السبل... إلخ، كان لابد لهذه الرحلة الاستنزافية أن تكون لها محطة نهاية، ينكشف عندها المستور.
نعم، من خلال الدولار، طوقت الولايات المتحدة إرادة أكثر من ستة مليارات نسمة في العالم، ليحيا المواطن الأمريكي في رفاهية مصطنعة، وليَظهر المواطن الأمريكي على أنه الرمز والمثل الذي ينبغي أن يُحتذى كما تصورهم أفلام هوليود... الآن، آن للعالم أن يدرك أن تلك الرحلة قد توقفت، وأن عجلة الزمن قد دارت على الولايات المتحدة، كما دارت على أمم خلت، فهذه سنة الله في كونه، ولن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا.
ألم نتعلم من كتاب "المقدمة" للعلامة العربي المسلم ابن خلدون "أن الأمم تدور دورتها شأن الإنسان (الميلاد، النمو، النضج، ثم الشيخوخة، وأخيراً الانهيار) وأن الأمة تدخل مرحلة الانهيار عندما تضيع فيها القيم، ويسودها الفساد وتتجبر على باقي الأمم، فهي بذلك تعلن عن بداية نهايتها، وهذا هو ما حدث خلال العقود القليلة الماضية، فالولايات المتحدة نشأت قوية وقدمت المثل الطيب في النهضة والنمو، ولكن دارت الدائرة عليها، لتستمر عجلة الزمن في الدوران، ولتقدم الدروس والعبر لمن أراد أن يعتبر.
فالدولار الذي استخدم كسيف مسلط على رقاب العالم لعقود، وإن كان قد أفاد الاقتصاد الأمريكي في مراحل كثيرة إلا أنه هو أيضاً جر هذا الاقتصاد العظيم إلى حالة غير مسبوقة من الخلل أغرقته في براثن أزمة غير مسبوقة، وأغرق معه الاقتصاد العالمي، وخاصة الدول الغلبانة التي لا حول لها ولا قوة.
لا يمكن أن ندعي أنها نهاية الولايات المتحدة كقوة كبرى، فالولايات المتحدة تنعم بإمكانات هائلة، فقط إذا أحسن توظيفها، لكن ما حدث أخيرا يشكل نقطة بداية لكشف الحقائق وإعادة التوازن المفقود، ولكن كل هذا مشروط بقدرة ورغبة الآخرين في التحرك الجاد، ولكن للأسف لم تتعرض قمة لندن لهذا الموضوع "معيار الدولار" لا من قريب ولا من بعيد.. لماذا؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه في مقالنا القادم، إن شاء الله، وتقبلوا تحياتي.